شابة تقف قبالة مرفأ بيروت المدمر بانفجار آب/أغسطس 2021 في العاصمة اللبنانية وتلف نفسها بعلم لبناني كبير استبدل فيه اللون الأحمر بالأسود حداداً وبدت على الحجارة بالأحمر أسماء أشخاص قتلوا في الانفجار (أنور عمرو / ا ف ب)

عندما "يموت اللبنانيون ببطء... كل يوم"

لم أعش الحرب الأهلية اللبنانية ولم أختبر الحياة في ملاجئ تحت الأرض احتماء من القصف، أنا التي نشأت خلال سنواتها الأخيرة في قرية نائية في جنوب لبنان لم تصلها المعارك. لكنني أعرف الكثير عنها، من روايات سمعتها من أهلي وأقاربي وحتى أصدقاء تعرفت إليهم لاحقاً في بيروت، ممن ترك فيهم نحو 15 عاماً من المعارك والقصف ندوباً قاسية.

أعرف الكثير عنها من كتب ومقالات قرأتها، ومن أفلام وثائقية شاهدتها، ومقاتلين سابقين استمعت مراراً إلى شهاداتهم وتجاربهم، بعدما قرروا أن يكرسوا ما تبقى من حياتهم لبناء السلام.

أعرف عنها أيضاً من زوجي، هو من "جيل الحرب" في بيروت. كان عمره عامين حين اندلعت و17 عاماً حين انتهت. وهو غالباً ما يقابل عصبيتي الزائدة اليوم من الانتظار أمام الصيدلية أو الفرن أو السوبرماركت بابتسامة هادئة. ويستفيض بعدها في إخباري عن طفولة قضاها بين الملاجئ، تنقّل خلالها بين أربعة منازل وأضاع عامين دراسيين جراء القصف. يستعيد ذكرياته وهو يحصي عدد القذائف أو ينتظر في طابور طويل للحصول على كيس خبز أو جرة غاز أو تعبئة مياه للشرب.

امرأة تجهش بالبكاء بعد انفجار سيارة في حيّ مكتظ في غرب بيروت بتاريخ 8 آب/أغسطس 1986 (خليل دهيني / ا ف ب)

منذ أن اخترت الصحافة مهنة، بتّ أعرف أكثر أن أزمات هذا البلد الصغير المتعدد الطوائف والانتماءات المتتالية هي من تداعيات تلك الحرب التي انتهت بقانون عفو من دون مصالحة حقيقية.

قتلت الحرب التي صادفت الثلاثاء الذكرى السادسة والأربعين لاندلاعها أكثر من 150 ألف شخص.

دُمّرت بيروت كلها، وكرّست خطوط تماس بين العائلات والجيران والأصدقاء، وتخللتها مجازر وانتهاكات وحوادث خطف على الهوية وفق الانتماء الطائفي. وكانت أيضاً سبباً في هجرة مئات آلاف اللبنانيين الذين أرادوا حياة طبيعية ومستقبلاً آمناً لأولادهم.

شارع في وسط بيروت دُمر خلال الحرب الأهلية في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1976 (ا ف ب)

لكنني لم أكن لأتصور يوماً أنّني سأسمع ناجين من الحرب يقولون في زمن السلم، إنّ هناك ما هو أسوأ من تلك الحرب وأشد رعباً من دوي مدافعها: الخوف من الفقر والجوع والعوز في بلد يئنّ تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة غير مسبوقة بدأت منذ صيف العام 2019.

عندما قصدت منزلها الأسبوع الماضي لإعداد تقرير صحافي، كان وقع ما قالته عبلة باروتا (58 عاماً) صادماً.

كدتُ لا أصدق عندما قالت السيدة التي نجت من الحرب الأهلية ثم من إصابة بالغة جراء "انفجار الفساد"، كما تُسميه، في مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس، بمرارة وغضب "أن يموت الفرد جراء قذيفة أفضل، أقلّه لا يعاني... تأتي قذيفة وينتهي الأمر بينما نحن نموت في كل يوم ببطء". 

اللبنانية عبلة باروتا البالغة 58 عاماً في منزلها في بيروت في 11 نيسان/أبريل 2021 (أنور عمرو / ا ف ب)

وأضافت "كانت حياتنا أفضل رغم الخوف من القذائف (...). كنا نختبئ في المنزل أو الملاجئ. لكن اليوم كيف نختبئ من الجوع؟ من الوضع الاقتصادي؟ من كورونا؟ من زعمائنا؟".

ليست عبلة، وهي أرملة وأم لثلاثة أولاد، وحدها من يقول ذلك. كثر ممن عاشوا يوميات الحرب وعانوا من القصف والقذائف وانتهاكات الميليشيات، يصرون على أنه رغم مرارة تلك الأيام، لم يتذوقوا طعم الذل و"البهدلة" كما هو حالهم اليوم.

ومن بين هؤلاء والدة زوجي التي منذ أن أرخت الأزمة الاقتصادية بثقلها، تكرّر على مسامعنا أنها لم تعش مثل هذا "القلق من المجهول".

خلال زيارتي الأخيرة لها، صودف أن مسؤولاً يعقد مؤتمراً صحافياً تبثّه إحدى القنوات التلفزيونية مباشرة. كان صوت التلفاز منخفضاً ولم تشأ أن ترفعه باعتبار أن "كل ما يقولونه منذ سنوات محض كذب".

متظاهرون لبنانيون محتجون على الطبقة السياسية يعلقون لافتة على سياج خلال تظاهرة في وسط العاصمة بيروت في 12 آذار/مارس 2021 (جوزيف عيد / ا ف ب)
مواطن لبناني يقف إلى جانب إطارات مشتعلة خلال تظاهرة نظمها محتجون قرب مسجد محمد الأمين في بيروت في 8 آذار/مارس 2021 (أنور عمرو / ا ف ب)

 

 

فقدَ لبنانيون كثر الثقة بالطبقة السياسية وبقدرتها على استنباط حلول إنقاذية توقف دوامة الانهيار الاقتصادي الذي حرّك انتفاضة شعبية ناقمة على أداء المسؤولين وفسادهم. لكن عشرات الآلاف ممن نزلوا الى الشوارع لأشهر يغيبون اليوم عنها، رغم أن تداعيات الأزمة باتت أكبر بكثير. بعضهم اختار الهجرة، وآخرون فقدوا الأمل من إمكان التأثير على السياسيين، وبعضهم الآخر بات همه فقط تأمين قوت عائلته.

"شعور بالذنب"

خلال الأشهر الماضية، فاقم تفشي فيروس كورونا الوضع سوءاً. ثم جاء انفجار المرفأ الذي أودى بحياة أكثر من مئتي لبناني وأوقع أكثر من ستة آلاف جريح ودمّر أحياء في العاصمة، ليعمّق الأزمة، فيما السياسيون يعيشون في عالمهم منقطعون عن الواقع، أو... غير مبالين.

تاجر يجلس أمام محله في أحد شوارع مدينة جبيل التاريخية شمال بيروت في 13 آذار/مارس 2021 (جوزيف عيد / ا ف ب)

لم أعش الحرب الأهلية ولا يومياتها، لكن ما أختبره وأعاينه في كل يوم يذكرني بمشاهد من أرشيف تعيد القنوات نشره كلما اقترب ذكرى اندلاع الحرب الأهلية في 13 نيسان/أبريل: اصطفاف المواطنين أمام الأفران وأمام محطات الوقود والصيدليات.

ويتجلى الانهيار الاقتصادي في نواح عدة: شحّ في السيولة وقيود مصرفية مشددة على الودائع خصوصاً بالدولار، وفقدت الليرة تدريجياً 85 في المئة من قيمتها مقابل الدولار، وارتفعت الأسعار بشكل هستيري، وخسر عشرات آلاف اللبنانيين وظائفهم أو جزءاً من مصادر دخلهم. أما من كان محظوظاً بما فيه الكفاية واحتفظ بوظيفته، فباتت قيمة راتبه معدومة.

وبطبيعة الحال، غيّرت الأزمة نمط حياة اللبنانيين. بات أكثر من نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر، وفق الأمم المتحدة، ثلثهم في فقر مدقع. وصار الهم الأساسي توفير الاحتياجات الأساسية فقط من زيت وحليب وسكر وأدوية بأسعار مدعومة في بلد كانت الطبقة المتوسطة فيه قادرة على تأمين حياة كريمة والسفر سنوياً لقضاء إجازات وشراء منزل وسيارة حديثة.

سيدة تُظهر برادها الفارغ في منزلها في مدينة صيدا في جنوب لبنان في 16 حزيران/يونيو 2020 (محمود زيات / ا ف ب)

وحوّل أقارب وأصدقاء غرفاً في منازلهم منذ أشهر إلى ما يشبه مستودع صغير يخزنون فيه المواد الغذائية والحبوب ومواد التنظيف، عدا عن مستلزمات الأطفال من حليب وحفاضات، مستبقين ارتفاعاً إضافياً في أسعارها.

في محلات السوبرماركت، اختفت مواد غذائية وسلع عديدة من الرفوف مع تراجع الاستيراد بسبب شح الدولار، عدا عن تغيّر الأسعار على وقع تقلّب سعر الصرف.

صار الذهاب الى السوبرماركت بالنسبة إليّ مهمة شاقة، خصوصاً في ظل تفشي فيروس كورونا، بعدما كنت أعتبره متعة. وأصبحت القدرة على الشراء تغذّي شعوراً يرقى أحياناً إلى حد الإحساس بالذنب أمام مشهد والد يحاول إقناع ابنه اليافع بشراء قهوة من نوع رديء لأن ثمنها بخس، أو سيدة تعيد عبوة زيت إلى مكانها بعدما تكتشف أن ثمنها يعادل قرابة ربع الحد الأدنى للأجور في لبنان.

لبنانيون يتسوّقون في سوبرماركت في بيروت قبل فرض إغلاق كامل للحد من انتشار فيروس كورونا بتاريخ 12 كانون الثاني/يناير 2021 (جوزيف عيد / ا ف ب)

قبل أسابيع، وبعدما أنهيتُ شراء حاجيات كثيرة، بعضها لوالدتي المقيمة خارج بيروت، وقفتُ لأكثر من عشرين دقيقة في صف طويل بانتظار أن أصل الى الصندوق. خلفي وقفَت سيدة أربعينية حملت بضعة أغراض، ولم تكفّ عن التذمّر من الانتظار. كانت عربتي أنا شبه ممتلئة. وبينما كان موظف يحتسب أغراضي، كانت هي تعدّد هذه الأغراض بصوت مرتفع، ثم قالت: "بعض اللبنانيين يعيشون في ترف ولا يخجلون، بينما ثمة من يموت من الجوع".

وقع هذا الكلام عليّ ككرة نار. كنتُ بصدد تسديد الفاتورة، شعرتُ بمزيج من الغضب والإحراج والحزن. لم أعرف ما إذا كنت أدين لها بتفسير أم لا. لكنني اخترت دفع عربتي الى الخارج. رفعت كمامتي لآخذ نفساً عميقاً محاولة حبس دموعي. 

فأنا نشأت في عائلة مكونة من خمسة أفراد، أمضى والدي وهو أستاذ مدرسة 45 عاماً في الخدمة، قبل أن يتقاعد في ربيع العام 2019. وبعدما كان يخطط لتقاعد مريح، وجد تعويضه يتلاشى على وقع تدهور العملة، وبات راتبه الحالي بالكاد يعادل مئتي دولار. ويكافح شقيقي، موظف المصرف، لتأمين قوت عائلته بينما اختارت شقيقتي قبل سنوات السفر للعيش مع زوجها في الخارج.

مآذن مساجد يتوسطها برج كنيسة في وسط العاصمة اللبنانية في 4 أيلول/سبتمبر 2020 (جوزيف عيد / ا ف ب)


كنت أعي تماماً ما شعرت به تلك السيدة في تلك اللحظة، وفي الوقت نفسه اجتاحني الغضب. فأنا لم أقترف ذنباً بشراء أغراض نحتاجها، فيما بتنا كلنا كلبنانيين محرومين من هناء العيش ومن سلام النفس والطمأنينة.

بعد يومين، صودف أنني كنت مع صديقة تعمل لدى منظمة دولية وتتقاضى راتبها بالدولار. وإذ بها تخبرني عن شعور بالذنب لا يفارقها، كونها قادرة على التعامل مع ارتفاع الأسعار، والحفاظ على مستوى كريم من العيش. ويحصل ذلك فيما أفراد من أسرتها عاجزون عن توفير احتياجاتهم الأساسية ودفع أقساط أولادهم المدرسية. وعلى غرار ما يفعل كثيرون، تحاول مساعدتهم لكنها لا تعلم إلى متى سيستمر الوضع على هذا الحال، باعتبار أنّ "الوضع من سيء إلى أسوأ".

- "ما من أمل" -

ويتحسّر كبار السن على لبنان الستينات، حين عرفت البلاد عصرها الذهبي، قبل أن تعصف بها أزمات متلاحقة فصلت بينها حروب وتوترات طائفية. وبعدما سكتت فوه المدافع نهاية الثمانينات، فشلت القوى السياسية في بناء دولة مؤسسات وقانون ومرافق منتجة بعيداً عن منطق الصفقات والمحسوبيات.

على صفحتي على فيسبوك، كتب صديقي جهاد، وهو أستاذ جامعي ومن جيل عاش الحرب بتفاصيلها، أن اللبنانيين كانوا يعرفون أن الحرب ستنتهي ذات يوم، لكن اليوم "ما من أمل. أكثر ما يقال إنّ البلد انتهى كما يُعرف وكما كان".

طفل لبناني أمام عناصر أمنية خلال تظاهرة في مدينة طرابلس الشمالية احتجاجاً على تردي الأوضاع الاقتصادية فيض 28 كانون الثاني/يناير 2021 (جوزيف عيد / ا ف ب)
امرأة لبنانية تضع كمامة بألوان العلم اللبنانية خلال تظاهرة ضد الطبقة السياسية في بيروت في 11 آذار/مارس 2021 (انور عمرو / ا ف ب)

 

 

ولعلّ فقدان الأمل هو أكثر ما يخنق اللبنانيين لا سيما فئة الشباب منهم. فحتى أولئك الذين يتقاضون رواتب مرتفعة أو بالدولار، يرددون في مجالسهم أنهم فقدوا "متعة الحياة" في لبنان، البلد الذي يُعرف شعبه بحبه للحياة والسهر واعتاد الاستمتاع بكل ثانية مهما اشتدت الأزمات.

 

قبل أيام، كان نشري لإعلان عن حاجة وكالة فرانس برس إلى صحافي أو صحافية في الخدمة العربية في مكتب نيقوسيا كفيلاً بأن أتلقى رسائل من زملاء يسألون عن تفاصيل الوظيفة، بينهم صحافي يعمل لصالح مؤسسة إعلامية مرموقة خارج لبنان ويتقاضى راتبه بالدولار. أبديتُ استغرابي لاهتمامه، فأجابني "هاجسي أن أغادر البلد كرمى لعائلتي"، مضيفاً "هذا البلد مصيبة. ويلك أن تبقى فيه وويلك أن تغادر".

سيدة لبنانية ترفع لافتة خلال تظاهرة نظمتها أمهات ضدّ الطبقة السياسية في بيروت في 20 آذار/مارس 2021 (أنور عمرو / ا ف ب)

وفي الأشهر الأخيرة، استنزفت الأزمة قطاعات عديدة: أطباء ومهندسون ومستثمرون وخريجون جدد حزموا حقائبهم وغادروا البلد بحثاً عن بدايات جديدة في أوروبا أو دول الخليج ومصر التي تجذب مستثمرين في قطاع المطاعم.

وبين من يستعد للسفر قريباً صديقتي أميمة، الممرضة المتفانية والعصامية التي بدأت مسيرتها المهنية قبل سنوات في أحد أبرز المستشفيات الخاصة في بيروت.

قبل أسبوعين، أبلغتني عبر واتساب أنها وقعت عقد عمل في السعودية. 

صورة جويّة لمرفأ بيروت في العاصمة اللبنانية بتاريخ 9 آب/أغسطس 2020 بعد ان دمّره انفجار ضخم في 4 آب/أغسطس 2020 (ا ف ب)
صوامع مدمرة في مرفأ بيروت جراء انفجار ضخم في 4 آب/أغسطس 2020 (أنور عمرو / ا ف ب)




 

 

وقالت لي "أكره السفر، لكن لم تعد عندي طاقة على التحمّل. هدفي ليس تحصيل راتب أفضل، لكن نفسيتي ماتت هنا".

من غرفة الجلوس في منزلها الذي زيّنته بصور وتحف فنية، بعد إعادة ترميمه جراء انفجار المرفأ، قالت عبلة باروتا إن ليس أمام اللبنانيين إلا خيارين لا ثالث لهما "الانهيار النفسي أو الجنون".

وتختصر إحدى الصديقات وهي أم لطفل صغير الوضع قائلة "عاش أهلنا حرب القذائف والرصاص، ونعيش نحن حرب الجوع، لكن الأهم ألا يبقى أولادنا في هذه المزبلة" لبنان، البلد الذي كان يعد ذات يوم "سويسرا الشرق".

إخراج ستيفاني يوسف

شارع رئيسي في وسط بيروت حيث كان مسرح سينما راديو سيتي السابق في 1 شباط/فبراير 1958 (ا ف ب)
صورة لأسواق في وسط بيروت في 1 شباط/فبراير 1958 لم تعد موجودة بعد الحرب الأهليّة اللبنانية (ا ف ب)
وسط بيروت في أوائل السبعينات قبل اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975 (ا ف ب)

 

ليال أبو رحال