بغداد... وكأن الحرب بعد قليل!
يتناقل العراقيون رواية عن هندي يدّعي تعليم السحر جاء إلى بغداد خلال سنوات الحصار الدولي على العراق بعيد الغزو الأميركي الأول للبلاد في أعقاب اجتياح صدام حسين للكويت.
ويروي أحد قدامى العسكريين العراقيين أن الرجل حاول إقناع مجموعة التقاها بالصدفة، بأن السحر موجود ويعمل به، فما كان من العسكري إلا أن وافقه القول، سائلا إياه "ماذا تسمي عائلة تعتاش شهراً كاملاً براتب لا يتعدى دولاراً واحداً؟". فأجابه الهندي "هؤلاء سحرة".
هكذا هو العراق، يعيش بسحر أهله الذين، وإن جار عليهم الزمان منذ أكثر من 1400 عام، كما يقولون، يجدون منفذاً من البؤس بأساليبهم الخاصة.
حينما بدأت مهمتي كمراسل لوكالة فرانس برس في العراق في العام 2017، دخلت البلاد وفي مخيلتي أصلاً سحر هذه البلاد من جهة، وتاريخها الحديث الموسوم بالدم منذ الغزو الأول والحصار والغزو الثاني وسقوط نظام صدام حسين والنزاع الطائفي، وصولاً إلى اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية، من جهة ثانية.
هذه المخيلة تغذت على مدى سنوات من قصص تلك البلاد.
طفولتي نهلت من بلاد الرافدين: من كهرمانة والأربعين لصّاً، شهرزاد وشهريار، مصباح علاء الدين، وكل قصة سمعتها من قصص ألف ليلة وليلة.
في العراق، شارع كبير الشعراء العرب أبو الطيّب المتنبي بوسط بغداد للثقافة والمثقفين، يحتضن مقهى الشابندر الذي مر قرن على تأسيسه، وكأنك تجلس في كتاب تاريخ.
في العراق، أسواق تبيعك بعضاً من بريق المدينة وعبقها، متاجر السجاد واللوحات في الكرادة، مخابز الصمّون الحجري المترامية في زواياها.
في العراق، مهد الموسيقى، من زرياب في الموصل، كبرى مدن محافظة نينوى في شمال البلاد، وصولاً إلى الخشّابة في البصرة، مروراً بأصول المقام من محمد القبانجي وفلفل كرجي ويوسف عمر.
كل ذلك سمعت عنه قبل الوصول إلى بغداد، ويخبرك عنه أهل بلاد الرافدين بحذافيره، كمن يقف على الأطلال متأسفاً عمّا وصلت إليه أرض الحضارات.
"ثمنها مليون"
كصحافي، شغل العراق اهتمامي على مدى سنوات بالأحداث المتلاحقة والحروب التي وقعت على أرضه وتركت آثارها على كل المنطقة.
زرت بغداد في مهمة أولى في العام 2016 لمساعدة زملائي في تغطية انطلاق عملية تحرير الموصل.
في حزيران/يونيو 2017، كانت بداية عملي رسمياً في بغداد... وإلى الموصل عدت لأشهد على تقدم القوات العراقية.
أنا الصحافي اللبناني الذي ينتمي الى جيل عايش حروباً عدة، تسمّرت أمام مشهد النزوح. كان ثقيلاً.
لا زلت أذكر تبارك، الفتاة ذات الأعوام التسعة التي أنهكها السعال بعدما نجحت بالهروب من براثن الجهاديين مع جدتها المسنة.
قالت لي حينها، "أبويا مات، قتلوه داعش. أمي تصاوبت مع أختي المقعدة”.
حاولت قدر المستطاع ضبط مشاعري وكبت دمعتي. حتى اليوم، لم أنس ابتسامة تبارك حين رأت قطعة شوكولاته حُرِمت منها لأكثر من ثلاث سنوات.
كانوا نساء وأطفالاً وعجّز. كلٌّ منهم يحمل ما حرم منه ويشتهيه. السيجارة "حقها مليون"، قال لي عجوز جلس على حافة رصيف وهو يدخن سيجارة طلبها مني...
بينما كان فتيان على غرار أحمد وصهيب يلعبان كرة القدم التي حرّمها الجهاديون، بعد تحرير منطقتهما في الجانب الأيسر من أم الربيعين.
أشياء صغيرة مثل هذه رافقت فرح التحرير.
حين وصل فريقنا الإعلامي، دبّ الذعر في قلوب النازحين لدى رؤية سيارتنا من طراز تويوتا لاند كروزر، والتي يسميها العراقيون "مونيكا" نسبة إلى مونيكا لوينسكي.
أخبروني أن تنظيم الدولة الإسلامية كان يستخدم تلك السيارة حينما يريد اعتقال أحد لإعدامه.
وقال أحمد "كنا نعلم أن مونيكا للإعدام، والستاركس للجلد".
وللسيارات في العراق تسميات أخرى. فمثلاً سيارة الكرايسلر، يسمونها "أوباما"، لأن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما كان يقود سيارة من الطراز نفسه.
هناك أيضاً ليلى علوي، وأم الخبزة، والشيخ زايد، وبيكاتشو، وأسماء أخرى...
تعرفت في تلعفر، أكبر أقضية العراق في شمال نينوى، على سيارة يسميها العراقيون "الحوثية"! وذلك لأنهم رأوها للمرة الأولى مع الحوثيين في اليمن، وباتت الآن علامة مسجّلة باسم فصائل الحشد الشعبي في العراق.
لم تكن تجربة تلعفر سهلة. 12 يوماً في وسط الصحراء. درجة حرارة تلامس الخمسين. بلا مياه للاستحمام...
لكن ذلك لا يعني أن التجربة لم ترق إلى ذكريات لا تنسى، كالاستحمام بتذويب قطع الثلج في أحد المعامل الذي كان يزود بها المقاتلين لمواصلة القتال، أو شرب اللبن وأكل الخيار أكثر مما فعلت في كل حياتي.
مع التقدم في تلعفر للتحرير، وصلنا مع عناصر القوات العراقية، إلى القلعة.
كانت هناك بركة ماء، لم نفكر لثانية قبل أن نسبح فيها، فالحرّ كان قاتلاً.
فجأة ارتفع صوت الآذان من مسجد مجاور. تسمّر المقاتلون، وغالبيتهم من الشيعة، في أماكنهم، وبدأوا ينظرون الواحد إلى الآخر متسائلين عن هوية المؤذن، إلى أن قال "أشهد أن علياً ولي الله"، فعادت البسمة لترتسم على وجوههم. وقال أحدهم "هسه تأكدنا من التحرير".
في كربلاء المقدسة لدى الشيعة جنوب بغداد، اضطررت أن أشارك "المشّاية" مسيرهم في ذكرى أربعينية الإمام الحسين بن علي، لأن زحمة السير وصلت إلى بغداد، وبدأت رحلتي من جسر المسيّب الذي غنّى له العملاق ناظم الغزالي يوماً.
استفتاء، تظاهرات، واغتيال
ثم زيارة كردستان العراق!
نظم الإقليم الذي يتمتع بحكم ذاتي استفتاء على الاستقلال في أيلول/سبتمبر 2017.
وصودف تواجدي في مدينة كركوك التي كان يسميها الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني بـ"قدس كردستان" نظراً إلى أهميتها في النزاع بين بغداد وأربيل.
خفتُ يومها. كان الانقسام جلياً وكأن الحرب بعد قليل. رأيت نفسي فجأة أغيّر اسمي عندما ألتقي أشخاصاً لا أعرفهم، واخترت اسماً لبنانياً محبباً لدى الجميع.
غير أن اسمي وجنسيتي كانا مفتاحين ذهبيين في بغداد.
لكن عندما يسيطر الخوف، لا شيء يشفع لك.
فقد عايشت "انتفاضتين" في العراق: الأولى ضد حكومة حيدر العبادي في صيف العام 2018 في البصرة، أحفظها في ذاكرتي لأنها تزامنت مع كأس العالم، ومنعني انقطاع الانترنت والاتصالات حينها من متابعة المباراة النهائية بين فرنسا وكرواتيا. فازت فرنسا، وخسر حينها العبادي فرصته في ولاية ثانية بسقوط نحو 12 قتيلاً... وأحرقت القنصلية الإيرانية.
الانتفاضة الثانية والأضخم في تاريخ العراق الحديث كانت "ثورة أكتوبر" التي وإن لم تستمر، ستغيّر بالتأكيد وجه العراق السياسي والاجتماعي.
في البداية، كانت أحلام وهتافات وشعارات... ثم جاءت الأيام المخيفة.
سقطت الدولة في ليلة، وساد حكم المسلحين: تهديدات واعتداءات وخطف، وأكثر من 600 قتيل وعشرين ألف جريح من المتظاهرين ضد الفساد برصاص قوات لم تعرف هويتها حتى اليوم.
ما إن اقتربت الأمور من الهدوء النسبي، حتى جاءت عملية اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، بغارة أميركية قرب مطار بغداد، لتقلب الطاولة من جديد.
وتصاعد التوتر... وبتنا ننتظر إعلان حرب لم تأت... بسحر ساحر.
"كارونه"
لم يكن السحر الذي حبسنا في بغداد مع تفشي جائحة كوفيد-19 أو "كارونه" كما يسميه بعض العراقيين. ولم أتخيل يوماً أنني سأمضي سبعة أشهر متواصلة في العراق.
يعرف معظم الصحافيين بعضهم جيداً إجمالاً في بغداد، لكن الوباء ساعد في توطيد العلاقة.
كان مصطفى، زميلنا في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية يمتعض من محاولاتي تحضير الحلويات أثناء الحجر الصحي في المنزل الذي يعمل وينام فيه فريق فرانس برس من غير العراقيين، على عكس شهيته المفتوحة أمام طبخاتي التي صقلت موهبتي فيها في تلك الفترة، بشهادة زملائي.
لكن مصطفى كان يعترف في نهاية المطاف أن مشكلته معي أبعد من الطعام. "نحن لدينا ساحة بيروت في بغداد، لماذا لا توجد ساحة بغداد في بيروت؟".
أشياء كثيرة تعود إلي وأنا أحاول الكتابة، كقصيدة "الشمس شمسي والعراق عراقي" التي كانت نغمة انتظار حين نتصل بأحد كبار قادة الأجهزة الأمنية. حفظها غالبية الصحافيين عن ظهر قلب.
أو الاسم المعرب لسفير ياباني، "أبو جاسم"، لمجرّد أنه يتحدّث اللهجة العراقية، أو حين اكتشف رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي أنني لبناني وحاول مجاراتي في اللكنة.
صرت عراقياً بعض الشيء خلال هذه السنوات الثلاث التي عشت فيها هناك.
تعلق لساني بكلمة "خوش"، أي جيّد. كنت أرددها باستمرار في أحاديثي البغدادية. كما كلمات أخرى جميلة من اللهجة العراقية، مثل "تدلّل"، أي بمعنى سأقوم بالأمر كرمى لعيونك، أو الألقاب التي تسبق اسمك في حال المناداة، على غرار أغاتي وعيوني، ومؤخراً، مولاي...
... وهشام!
كنت أعتقد أن ذاكرتي البغدادية سيغلب عليها الفرح رغم كل شيء. لكن زخّ الرصاص الذي اخترق جسد صديقنا هشام الهاشمي في وسط بغداد، كفيل بوصمها بالحزن.
كنّا نعلم أن هناك خطراً... كان دائماً قريباً، ولكن ليس إلى هذه الدرجة. رحيل هشام أبكاني، أبكانا جميعاً، صدمنا كثيراً. كان صعباً أن نكتب خبر رحيل عزيز.
كانت بغداد برّاقة، واغتيال هشام أفقدها بعضاً من ذلك البريق لديّ.
ظننت أن مغادرتي هي النهاية، لكن تلك البلاد مشعوذة. إن سكنتها، سكنتك، وزرعت فيك سؤالاً لا ينفك يراودك: "متى تعود؟".