"أراك بعد انتهاء الحرب"
حدث كل شيء بسرعة. مباشرة بعد غروب الشمس في مدينة القدس الجمعة السابع من أيار/مايو. كنا نغمّس أصابعنا في طبق ورق العنب المحشو والملفوف بعناية فائقة ونسكب في أطباقنا سلطة الفتوش الشهية واللحوم والأرز المتبل بالهيل، حين انهالت رسائل عبر تطبيق "واتساب" على هواتفنا "توتر في المسجد الأقصى".
على مدى أسابيع، حرمت الاحتجاجات الليلية في محيط المسجد الأقصى في القدس الشرقية المصور أحمد الغرابلي من النوم في الليل. ويروي "كنا منهكين، الأمر الوحيد الذي كان يدور في ذهننا في ذلك الإفطار في آخر يوم جمعة من شهر رمضان كان السهر بعده للدردشة مع تدخين نرجيلة بهدوء تحت أشجار المشمش". لكن لم يكن الوضع هادئا. نهض أحمد وقال "أنا ذاهب إلى الأقصى".
كنا نتوقع تظاهرات عنيفة، وربما سقوط جرحى، ولكن ليس ما حدث بالفعل: اندلعت مواجهات عنيفة خلال الليل بين الفلسطينيين والشرطة الإسرائيلية في باحة المسجد، المكان الذي ولدت فيه الانتفاضة الثانية عام 2000.
في وقت مبكر من صباح الاثنين، قال لي أحمد عبر الهاتف "غيوم، هناك اشتباكات في الأقصى، الجرحى في كل مكان". مئة، مئتان، ثلاثمئة، اربعمئة، خمسمئة، وفق فرق الإنقاذ، وكانت نشرة وكالة فرانس برس تمطر تنبيهات.
وسرعان ما اكتظت المستشفيات بالجرحى، بينما كانت إسرائيل تحتفل ب"يوم القدس"، وهو اليوم الذي احتل فيه الجيش الإسرائيلي الشطر الشرقي من المدينة في 1967، وتم ضمّه في ما بعد إلى إسرائيل.
كان الآلاف من الشباب اليهود يتجهون نحو البلدة القديمة، وازداد الخوف من حصول تصعيد بعد المواجهات الأعنف منذ سنوات في القدس. كانت المدينة تحبس أنفاسها.
مع حلول نهاية اليوم، دخلت حركة حماس الإسلامية التي تدير قطاع غزة على الخط. في الخامسة مساء، أمهلت الحركة إسرائيل ساعة لسحب قواتها من ساحة الحرم.
في تمام السادسة مساء، دوّت صافرات الإنذار في جنوب إسرائيل ومدينة القدس.
بدأت السماء في جنوب إسرائيل تمطر صواريخ أطلقت من غزة، وتمكّن نظام القبة الحديدية الإسرائيلي المضاد للصواريخ بالتصدي للعديد منها، لكن بعضها سقط على المنازل وفي الحقول المحيطة. وبدأت الدولة العبرية بالرد على مصدر الصواريخ في ليلة العاشر من أيار/مايو.
على مدار الأيام التالية، تواصل سقوط مئات الصواريخ في اتجاه الأراضي الإسرائيلية، بينما شارك آلاف الفلسطينين في تظاهرات احتجاجية على الضربات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية.
في مدينة اللد، بالقرب من مدينة تل أبيب، اندلعت شرارة العنف بين السكان اليهود والعرب الإسرائيليين في البلدات والمدن المختلطة، وأضرم أشخاص النار في كنيس يهودي ردا على مقتل عربي بالرصاص.
ويقول يحيى حسونة، مصور الفيديو في مكتب غزة في وكالة فرانس برس، "غادرت المنزل وذهبت إلى المكتب حيث قمت بتصوير الضربات مباشرة من الشرفة".
ويتابع "ودعتني زوجتي بالبكاء. قلت لها: سأراك بعد الحرب. لم أرد أن أخبرها أني سأذهب الى الميدان، الى المستشفيات حيث سقطت قنابل".
ويقول حسونة "الأمر الأصعب بالنسبة للصحافيين في غزة هو ضغط العائلة. لمدة عشرة أيام، لم أر والداي. لكنهما لم يتوقفا طيلة الوقت عن الاتصال بي للاطمئنان وتحذيري من الذهاب الى مناطق خطرة. كنت أقول لهم أنني بخير. لكنهم كانوا يعلمون، هم الذين يعيشون في وسط مدينة غزة، أن القصف كان في كل مكان. وكانت زوجتي ترجوني أن أعود الى المنزل".
المصور جاك غيز غادر من جهته عائلته في مدينة تل أبيب نحو مدينة عسقلان في جنوب إسرائيل القريبة من قطاع غزة والتي وعدت حماس بتحويلها إلى "جحيم".
كانت صفارات الإنذار وأصوات انفجارات الصواريخ تتوالى لا سيما خلال الليل. ويروي غيز "مكثت في فندق. لكن كان من المستحيل النوم مع كثافة القصف والإنذارات الصاروخية. تسمع انفجارا، تقول لنفسك: لم يصب الفندق، ليس هذه المرة. لكن كان من الممكن أن أقع ضحية صاروخ في غرفتي بالفندق".
أصيب في المدينة التي يبلغ عدد سكانها 150 ألفا، نحو 30 شخصا، بينهم خمسة أطفال جرحوا خلال يوم واحد في 11 مايو/أيار، بحسب خدمات الطوارئ.
ويروي غيز "كنت أقود سيارتي لمدة 11 يومًا دون وضع حزام الأمان لضمان الهرب بسرعة إذا حدث أمر ما. أتذكّر دائما ما حدث لأصدقائي من وكالة أسوشييتدبرس ورويترز عندما أصيبت سيارتهم بصاروخ في الماضي. كانت أعنف الحروب التي شاركت في تغطيتها الصحفية. في الماضي، كنت أسمع أصوات انطلاق ثلاثة، أربعة، خمسة، أو ستة صواريخ في وقت واحد، لكن هذه المرة، وجدت نفسي تحت وابل من عشرات الصواريخ".
ويضيف "أحيانا، كانت السماء تصبح بيضاء بسبب عدد الصواريخ، ولم أكن أدري إن كان يجب أن أعمل أم أن أحمي نفسي".
ويقول غيز إن عائلته تقطن في بلدة قريبة من مدينة غزة، و"فور سماعي أخبارا عن إطلاق صواريخ على تلك المدينة، كانت أولويتي الاتصال بأطفالي".
ويقول نير كفري مصوّر الفيديو الذي يقيم في منطقة تل أبيب "هذه الجولة كانت أصعب بكثير من جولات العنف السابقة التي كانت في الغالب في بلدات سديروت وعسقلان على الحدود مع غزة".
في الليلة الأولى من اندلاع موجة العنف، كان كفري مع زوجته في طريق عودتهما الى المنزل من زيارة عائلية حين سمعا فجأة دوي صافرات الإنذار. ويقول "أصابت الصواريخ منطقتنا، سمعنا صافرات الإنذار في الراديو حيث كانوا يتلون أسماء الأماكن المستهدفة".
يروي أن زوجته أصيبت بالهلع حين فتحت نافذة السيارة وقالت "أسمع صفارات الإنذار في الخارج، ليس من الراديو، الصواريخ فوقنا". وتوقفا الى جانب الطريق للردّ على اتصال من بناتهما من المنزل. "كان أشبه بفيلم رعب. لم يكن يعرفن ماذا يجب أن يفعلن".
حرب بـ360 درجة
في مناطق الحرب، غالبا ما يذهب الصحافيون الى الخطوط الأمامية ثم يعودون ليلا إلى أماكن إقامتهم سواء في الفنادق أو في منازلهم الشخصية... هناك خط أمامي وقاعدة خلفية، في بعض الأحيان هناك الضربات الجوية من السماء، لكن في غزة كانت حربا بـ360 درجة.
في هذا الجيب الساحلي المحاصر، لا مكان نذهب اليه. لا يوجد خط أمامي، لا يوجد خط خلفي. الحرب في كل مكان، من السماء، على الأرض، وتحت الأرض حيث أقامت حماس متاهة من الأنفاق.
عائلات الصحافيين ليست في أمان بعيدا عن ساحة القتال، ولكنها تعيش تحت النيران، كما الصحافيون.
ويقول الصحافي المخضرم في مكتب وكالة فرانس برس في غزة عادل الزعنون "لم يكن هناك مكان آمن. كان هناك خوف وألم دائم على عائلتي. كان علينا أن نطمئن بعضنا البعض كل ساعة".
ويتابع الزعنون الذي عادة ما يجيب عندما يُسأل عن حالته "دابل تماماً" (أي تمام تمام)، حتى خلال الحرب، "اليوم السابع من النزاع كان الأصعب، حين دمرت غارة إسر ائيلية منزل جاري وألحقت أضرارا بمنزلي الذي غادرته وزوجتي وأبنائي".
وكان أحد جيران الزعنون تلقى اتصالا هاتفيا من الجيش الإسرائيلي قبل القصف يحذره من البقاء في المنزل الذي تحول إلى كومة من الأنقاض مختلطة بالأحذية وملابس ولعب أطفاله أمام عينيه بعد انتهاء القصف.
عندما بدأت الحرب، كان عميد مكتب وكالة فرانس برس صخر أبو العون في حداد مع عائلته على وفاة ابنه مدحت (13 عاما) بالمرض. ويقول "كانت القنابل تقصف منطقتي في حي الرمال، وكنا نشعر بالخوف بينما أصوات القنابل تدوي من حولنا والمنزل تهتز. قُتل العديد من جيراني، إذ تم استهداف منازل عدة بالقرب من منزلي".
لكن صخر لم يقو على البقاء في المنزل. عاد إلى العمل وسط النزاع لمساعدة زملائه ولكتابة قصة عن حي الرمال المدمر وأخرى عن الصدمة التي يعاني منها الأطفال. في مقابلة أجراها، نقل عن طفل وصفه بأنه "نسخة مطابقة" عن ابنه المراهق الفقيد، قوله مرارا وتكرارا " انا خائف، أنا خائف، أنا خائف".
رؤية الأطفال يعانون من هذا الخوف وهذا الضيق اثرت في كثيرين، بينهم المصوّر الصحافي محمود الهمص الذي يقول "رؤية الأطفال في المشرحة كان يدفعني تلقائيا للتفكير بأطفالي. خلال الحرب، رأيت صبيا في المشرحة الى جانب شخص يصرخ في وجهه ويخبره أن والده استشهد. بكيت حين رأيت رد فعله الذي لم يتجاوز السؤال: ماذا؟".
ويقر الهمص "أبكي في بعض الأحيان حين أغطي ميدانيا. أحاول إخفاء ذلك لأظل مهنيا، لكنني أدركت أيضا أنه ليس من الجيد كبت كل المشاعر، لأننا لسنا من الجليد، فنحن بشر. نذهب الى المستشفيات، نذهب حيث القصف، ونراقب ما إذا ما كان الناس سيخرجون أحياء أم لا من بين الأنقاض".
ويقول المصور الصحافي محمد عبد إنه بكى "مرة" خلال الحرب بين إسرائيل وقطاع غزة عام 2014 حين رأى الطفل يامن ذي الثلاثة أعوام وهو يعالج من إصاباته بحروق شديدة في غرفة العمليات. هذه المرة، بكى "مرتين": "التقطت صورة صبي في شارع الوحدة كان يبحث عن أفراد عائلته بين الأنقاض، ويصرخ ماما، ماما. بكيت". كان ذلك الطفل الناجي الوحيد من عائلة مكونة من 20 شخصاً.
ويروي عبد الحائز جائزة دولية "بكيت مرة أخرى عندما اتصلت بي ابنتي. كانت تتابع كل ما يحدث على وسائل التواصل الاجتماعي وترسل لي رسائل تخبرني بأنها خائفة. وأنا كنت خائفا عليها".
برج الجلاء
ربما كان يوم السبت 15 أيار/مايو نقطة تحول. اتصل بي عادل من غزة ليخبرني أن "وكالة أسوشييتد برس وقناة الجزيرة تلقيتا للتو أوامر إسرائيلية بإخلاء مكاتبهما في برج الجلاء خلال مهلة أقصاها ساعة واحدة للمغادرة".
بعد دقائق من التحذير، هرع الصحافيون العاملون في وكالة الأنباء الأميركية الدولية والقناة التلفزيونية القطرية إلى خارج مبنى الجلاء وهم يحملون ما يستطيعون من كاميراتهم وأجهزة الكمبيوتر المحمولة ومعدات التصوير.
خارج البرج المتعدد الطوابق، تجمع صحافيون من جميع أنحاء غزة لمشاهدة الحدث وتصويره. دوى انفجاران هائلان وانهار البرج في سحابة غبار.
ثم بدأ التفكير سريعا بالعثور على مكان لإيواء موظفي أسوشييتدبرس والجزيرة. الطواقم الصحافية في غزة تعرف بعضها وتتبادل التقدير. بدأت الاتصالات بين غزة والقدس والدوحة وباريس ونيويورك.
وحصلت مكالمة أساسية مع أحمد عيسى، المهندس التقني في مكتب وكالة فرانس برس في غزة. فالبرج الذي كان يضم مكاتب أسوشييتد برس والجزيرة كانت فيه أيضا هوائيات ضرورية لاتصالات الإنترنت.
ويقول عيسى الذي يسكن مع عائلته في منزل قريب من برج الجلاء "حين سمعت بالتحذير، كان من المفترض أن أعود إلى المنزل لرعاية أطفالي وزوجتي ووالدي اللذين يسكنان في المبنى نفسه الذي اسكن فيه، لكن لم يكن في إمكاني الذهاب لأنني كنت أعرف أن قصف البرج سيكون كارثة للمكتب إذ سيتسبب بقطع الإنترنت".
ويتابع "اتصلت بعائلتي وطلبت منهم فتح النوافذ والابتعاد عنها قدر الإمكان داخل المنزل. أخطط دائما للأسوأ، لذلك كان لدي نظام +دعم+ معلوماتي احتياطي في حالة حدوث أزمة. وبالفعل انقطع خطا الإنترنت الرئيسيان لدينا، فوصلت المكتب على الخط الثالث واتصلت بالمزود لتعزيز نطاق الاتصال. مساء، تمكننا مع طواقم وكالة أسوشييتد برس والجزيرة من البث المباشر من مكتب وكالة فرانس برس".
الجمعة 21 أيار/مايو، بعد 11 يوما من الضربات الجوية العنيفة على غزة، وإطلاق 4300 صاروخ من القطاع على جنوب إسرائيل، أُعلن عن اتفاق لوقف إطلاق النار بعد جهود دبلوماسية مكثفة وراء الكواليس قادتها الولايات المتحدة ومصر. وبدأت مظاهر الحياة الطبيعية بالعودة تدريجياً.
أسفرت جولة العنف عن مقتل 260 فلسطينيا، بينهم 66 طفلا ومقاتلون، وفقا للسلطات المحلية. وقتل في الجانب الإسرائيلي 13 شخصاً بينهم طفلان وجندي، بحسب الشرطة الإسرائيلية.
كما تم تدمير ألف بناية في غزة. ويقول يحيى حسونة "كأن كل الغارات الجوية لحرب 2014 (التي استمرت أكثر من 50 يوما) تكثفت في 11 يوما".
بعد انتهاء الحرب، عانقتني زوجتي وقالت لي "لنذهب ونحتفل بالعيد"، عيد الفطر الذي مرّ خلال النزاع.
ويتركز الكلام اليوم عن إعادة الإعمار، لكن لا يأتي أحد على ذكر الحاجة الى جيش من علماء النفس الضروريين لمساعدة الناس في التغلب على صدماتهم.
ويقول الهمص "بعد حرب 2014، مررت بأوقات صعبة، وكنت أبكي أحيانا. عندما تكون هناك مخاوف من نشوب حرب، أو عمليات عسكرية خاطفة، أكون في مزاج سيء، لأن كل الحروب تتشابه. لكن من الخطأ أن تقول للأطباء أن كل شيء على ما يرام. يجب ان تتكلم".