متظاهرون في شارع الحبيب بورقيبة في وسط العاصمة تونس بتاريخ 14 كانون الثاني/يناير 2011 (فتحي بلعيد / ا ف ب)

ثورة الياسمين أطلقت العصفور من القفص

تحولت صورة وديع الجلاصي، المتظاهر الشاب الذي حمل قفصا وعلما تونسيا قبل عشر سنوات خلال تجمع للمطالبين بسقوط نظام زين العابدين بن علي، الى رمز لـ"ثورة الياسمين"، أول ثورة في الربيع العربي. في هذه المدونة، تروي كارولين نيللي بيرو، مديرة مكتب تونس، ما حصل في ذلك اليوم الذي شهد فرار بن علي، مستندة الى ذكريات الجلاصي ومصور وكالة فرانس برس الذي التقط الصورة التي جابت العالم، فتحي بلعيد.

يروي الشاب وديع الجلاصي الذي حملته الحشود وهو يرفع قفصا مزينا بعلم بلاده في ذلك اليوم التاريخي من العام 2011، "كنا فقراء ومحبوسين، وتحرّرنا"، في شرح لما يعنيه القفص الفارغ.

في الرابع عشر من كانون الثاني/يناير 2011، كان وديع عاطلا عن العمل. تبلّغ من أصدقاء في ذلك اليوم بوجود تظاهرة كبيرة في وسط العاصمة. تحمّس وجمع ملصقات كتب عليها شعارات مناهضة لنظام الرئيس السابق الراحل زين العابدين بن علي، ونزل الى الشارع للاحتجاج على عائلة "الطرابلسية"، أصهار الرئيس الذين يقول انهم استولوا على أراض عنوة من أقاربه في الحي الذي يسكنونه.

ويقطن وديع منطقة النحلي في المدخل الشمالي للعاصمة تونس، وهي منطقة فيها غابات تملّك أثرياء أجزاء كبيرة منها وبنوا فيها منازل فارهة، وظلت العائلات الفقيرة التي تتواجد بالمكان دون بيوت لائقة.

نشأ وديع في بيت صغير من طابقين وفي منطقة مهمشة لا توجد فيها طرق معبدة أو أرصفة.

الحي الذي يسكن فيه وديع الجلاصي في تونس بتاريخ 10 كانون الأول/ديسمبر 2020 (فتحي بلعيد / ا ف ب )


لدى انتشار الاحتجاجات ضد النظام التي حاولت القوى الأمنية قمعها في المناطق الداخلية وفي ولاية سيدي بوزيد (وسط) حيث أضرم الشاب محمد البوعزيزي النار في جسده  في 17 كانون الاول/ديسمبر 2010، قرر وديع الجلاصي الانضمام اليها. ويتابع "لم أقل لعائلتي عندما كنت أخرج، لم يكونوا يحبون ذلك خوفا علي".

والدته ربة منزل، ووالده الذي كان يعمل سائقا في شركة خاصة، متقاعد. أما هو، وبعد أن انقطع عن الدراسة في سنّ الرابعة عشرة، فقد عمل في متجر لبيع منتوجات مصنوعة من معدن الألمنيوم، قبل أن يتركه لأن راتبه الشهري كان 180 دينارا (أكثر بقليل من 100 دولار في حينه)، ولم يكن يسمح له بتحقيق اكتفاء ذاتي.

تنقل وديع بين مهن عدة، من العمل في مطاعم وورش بناء وفي محال تجارية... ثم تعرّف على محام يساري معارض للنظام آنذاك حمسه للمشاركة في الأنشطة الاحتجاجية.

وكان وديع في سن الواحدة والعشرين في 2011. ويروي "كنّا ننسق بالهاتف لنتواعد ونتفق على أساس اننا سننزل للعاصمة لشرب القهوة دون تفاصيل أخرى"، خشية من عمليات التنصت على المكالمات الهاتفية.

توجه نحو مكان التظاهر في شارع الحبيب بورقيبة في وسط العاصمة، سيرا على الأقدام، حاملا قفصا فارغا. وكانت صفوف المتظاهرين تتضخم في يوم 14 كانون الثاني/يناير في الشارع وأمام مقر وزارة الداخلية.

قال لمن كان يستوقفه ويسأل عن وجهته، إنه "متوجه نحو سوق المنصف باي حيث تباع الحيوانات".

تظاهرة في شارع الحبيب بورقيبة في وسط العاصمة تونس بتاريخ 14 كانون الثاني/يناير 2011 (فتحي بلعيد / ا ف ب )

في تلك الفترة تحوّل الخوف الساكن في قلوب العديد من التونسيين من قمع النظام والدولة البوليسية القائمة منذ 23 عاما، الى غضب جامح انتشر في شوارع العاصمة.

ويقول وديع "كنا ندرك أنه من المحتمل أن يموت أشخاص... ولكن كنت حريصا على أن أقول أن تونس كانت مسجونة في قفص لمدة 23 عاما والآن تحرّرت".

-تخليد للصدفة-

بدأ مصوّر وكالة فرانس برس فتحي بلعيد عمله في ذلك اليوم الساعة الثامنة صباحا قبل تجمع المتظاهرين.

وبدأت بعد ذلك حشود من المتظاهرين تتجمع أمام مقر وزارة الداخلية، وبينهم المحامية راضية النصراوي... وكان بين مطالب المتظاهرين آنذاك الإفراج عن زوجها السياسي اليساري حمة الهمامي المسجون آنذاك.

متظاهرون في شارع الحبيب بورقيبة في وسط العاصمة تونس بتاريخ 14 كانون الثاني/يناير 2011 (فتحي بلعيد / ا ف ب)

ويقول بلعيد "منتصف النهار، اتجهت صوب مقرّ الوكالة التونسية للاتصال الخارجي، الذراع الإعلامي للنظام". "كنا نرسل الصور حول التظاهرات من ذلك المكان المزوّد بالانترنت".

ويضيف "التقطت صورا لشباب يصرخون ضد النظام وترددت في إرسالها للنشر لكي لا أضعهم في خطر".

عندما عاد بلعيد الى مكان التظاهرة في شارع الحبيب بورقيبة، أصيب بالدهشة.

يقول "أزال المحتجون الحواجز من أمام مقر وزارة الداخلية، وكان بعض المصوّرين تسلقوا حتى باب الوزارة لالتقاط صور. كان أمرا لا يصدق!".

لم ير بلعيد الذي أمضى عشرين عاما في العمل كمصوّر لصحيفة "لا براس" الحكومية ثم لفرانس برس، تظاهرات مثل هذه من قبل.

غطى خلال مسيرته المهنية الطويلة أنشطة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات خلال وجوده في تونس وقمما دولية ومباريات رياضية وزيارات مسؤولين دوليين وإضرابات عن الطعام قامت بها أحيانا شخصيات سياسية معارضة لنظام بن علي.

متظاهرون في شارع الحبيب بورقيبة في وسط العاصمة تونس بتاريخ 14 كانون الثاني/يناير 2011 (فتحي بلعيد / ا ف ب)

دخل بلعيد، وهو ابن عسكري، عالم التصوير في سن 21 عاما ودرس الفنون الجميلة، وتمكن من تكوين شبكة علاقات سمحت له بدخول قصر قرطاج وتغطية العديد من الأحداث الكبرى.

إلى أن التقط الصور الأولى للانتفاضة الشعبية في تونس. وكانت صوره لمتظاهرين وأعمال شغب في منطقة الرقاب (وسط) في كانون الأول/ديسمبر 2011، من أولى الصور التي أنذرت بتداعي نظام بن علي قبل أن تنتقل شرارة الثورات الى أنظمة أخرى ودول أخرى.

لدى وصوله الى أمام مبنى وزارة الداخلية، بحث بلعيد عن مكان مناسب لأخذ صور جيدة للتظاهرة التاريخية.

ويتابع "كان زملائي قد تمركزوا بطريقة أفضل. حاولت تسلق جدار. وفي تلك اللحظة لمحت ذلك الشاب محمولا على أكتاف صديقه يرفع قفصا فارغا الى فوق، فأخذت له ست صور. ثم نزل وغاب وسط الزحام".

-انتهى بن علي-

ويقول بلعيد "غالبا ما تكون الصورة الصحافية تخليدا للصدفة".

كان الغاز المسيل للدموع قد عمّ المكان، وأصبح من الصعب إرسال الصور... وتمّ طرد الصحافيين من الوكالة التونسية للاتصال الخارجي، بينما عمد عناصر من الشرطة الى تحطيم سيارات متوقفة في المنطقة.

ويتذكر بلعيد "تغيّر الجوّ العام في مقر المؤسسة، وانسحب الجميع" من المكان.

دخان يتصاعد إثر اندلاع اشتباكات بين المتظاهرين والشرطة التونسية بتاريخ 14 كانون الثاني/يناير 2011 (فتحي بلعيد / ا ف ب)

ويضيف "كان زملائي ينظرون الى صورة دخان متصاعد حجب لافتة تحمل صورة بن علي. وقال أحدهم: بن علي انتهى، أرسل الصور". ويستدرك "لو لم يسقط بن علي لكانت هذه الصورة سببا في سجني ربما، لأنها لخصت ذلك اليوم". ولم يكن المصورون يعرفون بعد أن بن علي فعلا سيهرب من تونس في ذلك اليوم.

في منزله، أمام حاسوبه، أرسل بلعيد في ذلك اليوم صورا كتبت تاريخ البلاد، بينها صور لمقرّ حزب بن علي، "التجمع الدستوري الديمقراطي"، يتصاعد منه الدخان، وأخرى لحشود المتظاهرين، ولقوات الأمن وآلياتها المنتشرة في الشوارع الرئيسية للبلاد، والقصر الرئاسي...

بعد ساعات، أعلن التلفزيون "مغادرة" بن علي البلاد. وكانت وسائل الإعلام المحلية والعالمية تنشر صورا من تونس، وبينها صورة الشاب مع القفص الفارغ التي شكلت خلفية لعدد من النشرات والبرامج الإخبارية على شاشات التلفزيون.

-ثورة الياسمين-

وأطلق على الثورة التونسية اسم "ثورة الياسمين" لسلميتها.

ويقول فتحي "أشعر بالفخر، لأنني غطيت الاحتجاجات ونقلتها الى العالم، وتمكنت من إرسالها دون خوف"، مضيفا "الأسابيع الأخيرة قبل 14 كانون الثاني/يناير كانت صعبة جدا".

خلال السنوات الأخيرة من نظام بن علي، كان كل صحافيي وكالة فرانس برس يقومون بعملهم في ظروف صعبة خاصة، وسط استدعاءات ومحاولات ترهيب.

في العام 2005، تمّ تفتيش منزل مديرة مكتب تونس، ودخل أمنيون بيتها باستعمال الغاز المنوم وقلبوا أغراضها. وكان مدير آخر للمكتب طرد من البلاد في 1995 على خلفية اتهامات مفبركة له بالتحرش الجنسي.

ومع بدء الاحتجاجات في نهاية 2010، ازدادات التهديدات، ما كان يجبر الوكالة على اختيار كل كلمة بعناية لدى كلامها عن المعارضة، منعا لتعريض المكتب للإقفال.

وانتشرت صورة وديع جلاصي في كل مكان، كانت تزين مقارّ الأحزاب السياسية والمحلات التجارية والفنادق... ويتذكر بلعيد "عندما تولى الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، رئاسة الحكومة" في الفترة الانتقالية، "كان مديرمكتبه يهديها للمسؤولين الأجانب الذين يزورون البلاد".

بعد سنوات، التقى فتحي، عبر معارف مشتركين، وديع جلاصي في شارع الحبيب بورقيبة. ويشارك هذا الأخير أحيانا في برامج سياسية تلفزيونية حول الثورة.

-العصفور انطلق ولن يعود-

كان الشاب تحوّل الى أيقونة للثورة التونسية، وكرّمه الرئيس قيس سعيّد ليلة انتخابه خلال احتفال ضم آلاف التونسين في شارع الحبيب بورقيبة.

وقال سعيّد في مناظرة تلفزيونية شهيرة قبل يوم الاقتراع في العام 2019 "الشعب التونسي لن يعود الى القفص، انطلق نحو بناء جديد للتاريخ. تلك الصورة يجب ان يستحضرها كل السياسيين. العصفور الذي انطلق لن يعود أبدا ولن يقبل الفتات".

ولا يزال وديع جلاصي يعيش في الحي نفسه مع أهله، مع زوجته وابنته. لكنه لم يعد عاطلا عن العمل.

ويقول "حريتي، أن يكون لي منزل موصول بشبكة صرف صحي وتيار كهربائي لا ينقطع".

وديع الجلاصي يحمل حمامته البيضاء في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2020 (فتحي بلعيد / ا ف ب)

نقلها الى العربية أيمن جملي

إخراج ستيفاني يوسف 

كارولين نيللي بيرو