جروح تندمل ببطء في غزة
مدينة غزة (الأراضي الفلسطينية) – في الثواني الأولى، لم أشعر بأكثر من وخزة إبرة عند اختراق الرصاصة ساقي. تجمّدت عروقي. شاهدت الناس يصرخون والدم يتدفّق غزيراً من ثقبٍ في ساقي. لكن بلا ألم، ما عدا شعور بحريقٍ متصاعد من المعدة.
بدأت عملي مصوّراً فوتوغرافياً مع وكالة #فرانس_برس قبل حوالى 20 عاماً غطّيت خلالها ثلاث حروب في غزة ونزاعات في ليبيا ومصر وغيرها الكثير. طوال تلك السنوات أسعفني التخطيط الحسن والحظّ الوافر في تفادي الإصابة... لكن في حزيران/يونيو الفائت طالتني رصاصة إسرائيلية، معلنةً نفادَ مخزون الحظ لدي وبدايةَ رحلة جديدة في عالمي.
يومها كان الفلسطينيون يتظاهرون ضمن سلسلة احتجاجات انطلقت قبل ثلاثة أشهر على طول السياج الفاصل بين قطاع غزة المحاصر وإسرائيل، عندما بدأوا في اواخر آذار/مارس 2018 تجمّعات أسبوعية على بعد مئات من الأمتار من السياج للمطالبة برفع الحصار عن القطاع الفلسطيني.
على ما جرت العادة قام عدد صغير نسبياً، أغلبهم من الشبان، بالاقتراب من السياج لمحاولة قطع أسلاكه الشائكة، فبادر القناصة الإسرائيليون بفتح النار. حينها، كانت حصيلة القتلى الفلسطينيين ناهزت الـ100 (أكثر من 250 حالياً) فيما أصيب الآلاف بعاهات دائمة.
كان يوم الجمعة ذاك الثاني عشر على التوالي الذي أغطي خلاله التظاهرات. وزّعنا، أنا والمصوّرَين الآخرين الاثنين مع وكالة فرانس برس في غزة، نشاطنا على مواقع التظاهر الخمسة، فكان جباليا في شمال القطاع من نصيبي.
في ذاك اليوم لم تبلغ أعداد المتظاهرين ما كانت عليه في الأسبوع السابق، علماً أنه تمّ خلال شهر رمضان.
كنت مجهّزاً بسترة الصحافة وخوذة واقية. على بعد مئات الأمتار من السياج الفاصل شعرت أن المسافة كافية لضمان سلامتي، فوقفت برفقة مجموعة مسعفين وبدأنا تبادل النكات... التقطنا "سيلفي"... كان يوم جمعة روتينياً...
فجأة دوّت قعقعة، فتهاوى متظاهر أرضاً على بعد عشرات الأمتار. سارعنا نحوه، كلّ مستلاً أدوات المهنة: هم حمالة وأنا الكاميرا.
...ثمّ قعقعة ثانية. الرصاصة اخترقت ساقي اليمنى وأصابت اليسرى سطحياً. نظرت إلى الأسفل فشاهدت سروالي البيج يتخضّب بألوان غريبة.
شَهَدتُ في مسيرتي إصابة ما يكفي من الأشخاص، لأعرف ما يلزم التحقّق منه. الرصاصة جنّبت الركبة وما زال بإمكاني تحريك أصابع قدميّ، أي أن أطراف الأعصاب سليمة. الحظ لم يتخلّ عني تماماً، على ما يبدو.
وفيما حال الأدرينالين دون شعوري بالألم، فكّرت بشغفيّ الكبيرين: عائلتي والتصوير.
هتفت مطالباً بكاميرتي التي وقعت أرضاً وسط فوضى اللحظة... استغرق الأمر عدة أيام قبل التمكن من استعادتها.
عندئذٍ حملت هاتفي. كل أسبوع كانت زوجتي وابنتي ترجوانني توخّي الحذر قرب السياج الحدودي، وأقلقني ما قد يشعران به عند سماع الخبر. كتبت سريعاً "أصبت لكنني بخير" أثناء نقلي إلى سيارة إسعاف.
كان أفضل الخيارات نقلي إلى إسرائيل أو الخارج للعلاج، نظراً إلى تداعي الخدمات الصحية في القطاع المحاصر. لكنني، على غرار أغلبية أهل غزة، لم أملك تصريح مغادرةٍ إسرائيلياً. لذلك نُقلت إلى مستشفى في مدينة غزة سارع إليه الزملاء والعائلة والأصدقاء، وخضعت لعملية جراحية في اليوم نفسه.
انقضت الأيام التالية وسط غشاوة اختلطت فيها غرف العمليات والزوار بالألم العارم.
بعد أسبوعين حصلت على ترخيص إسرائيلي واتجهت إلى القدس للعلاج. رافقتني زوجتي لعدة أسابيع، لكن القلق بشأن أبنائنا أعادها لاحقاً إلى غزة.
عندها، بعد هدوء المعمعة الأولية، بدأت زحفي البطيء للعودة إلى الحياة.
في البدء عانيت من اضطرابات في النوم. فوسط تواجد الطائرات الحربية الإسرائيلية اليومي فوق غزة وطيف الحرب المُحدق بنا على الدوام، أرعبني هاجس حدوث أي شيء وسط عجزي عن حماية نفسي أو الفرار.
ليلة بعد أخرى استيقظت مذعوراً من كوابيس حيّة، صوّرت لي ساقي مبتورة بالكامل. عندها بدأ ابني أسامة يرقد في غرفتي، مسارعاً لطمأنتي كلّما انتفضت مرتعباً.
لكن حتى بعد خبوت الكوابيس لازمني الأرق. فالأطباء ثبّتوا هيكلاً معدنياً خارجياً على ساقي، يُركّب فعلياً بـ"براغٍ" في العظم الحيّ لدعم الساق وتعزيز تعافيها. لكنه يجعل الاستلقاء على الجانب مستحيلاً، وعلى امتداد أشهر، كلّما تقلّبت في نومي أيقظني ألم مبرح.
كلّ تصعيد في الوضع السياسي ضاعف توتّري إلى حدود قصوى، والأيام الأكثر هدوءاً أجازت لي بعض الراحة فأمضيت أمسياتي في لعب الورق ومشاهدة الأفلام. حاولت اجتناب الأخبار، وغادرت مجموعات العمل على تطبيق "واتساب" للتركيز على التعافي، كما مارست التمارين لإعادة تأهيل الساق خمس مرات في اليوم. وفعلاً، بدأت استعيد تدريجياً الشعور بذاتي المعهودة في المنزل.
لكن الأمر اختلف في الخارج.
فأنا الذي أمضيت حياتي ملتقطاً الواقع، مشاهداً العالم ومنتظراً اللحظة المناسبة، وجدت نفسي في تلك اللحظة في المقلب الآخر: بتّ أنا من يُشاهده الآخرون وهو يتنقل متعثّراً على عكازين، ضحية أخرى للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني المستمرّ منذ عقود.
النزاع قولب حياتي، لكنني لا أعرّف عن نفسي كمصوّر حرب، بل أرى مهنتي التقاطاً للحياة. ففي غزة لا مساحة كبرى للبهجة، لكنني غالباً ما أستقيها من التصوير الفوتوغرافي.
بعد خمسة أشهر طالت دهراً، أزيل الهيكل المعدني من ساقي في تشرين الأول/أكتوبر، بفكّ المسامير من العظم مع كلّ ما يلحق من ألم كاسح.
يقول لي الأطباء إن الساق لن تعود إلى سابق قوتها. لكن في غضون شهر، لا يسعني الانتظار كي أعود، أنا وساقي، إلى العمل، ونعم، إلى التظاهرات قرب السياج الحدودي كذلك، مع إدراكي أكثر من أي وقت ألّا صورة تستحقّ التضحية بحياتك في سبيلها.
صاغ هذه التدوينة جو دايك في القدس