عن ثلاجات خاوية في لبنان
في لبنان، فرغت ثلاجات العديد من العائلات، في مؤشر صارخ على حجم الانهيار الاقتصادي الذي تشهده البلاد وقد دفع قرابة نصف عدد السكان الى تحت خط الفقر، بينما تواصل قيمة العملة المحلية تدهورها إلى مستويات غير مسبوقة.
خلال أشهر قليلة، تآكلت القدرة الشرائية للبنانيين بعدما فقدت رواتبهم قيمتها الفعلية. ومع اعتماد الأسواق على الاستيراد بالدولار إلى حد كبير، كانت لانهيار الليرة انعكاسات سلبية على حياة الناس اليومية.
في الشارع، لا تبدو معالم الفقر حتى الآن فاقعة. فشرائح واسعة من اللبنانيون الذين يُعرف عنهم عنفوانهم يتكتمون على أشياء كثيرة: مشكلاتهم، أخطائهم وأحياناً أمراضهم. وهذا الأمر مرتبط الى حد ما بثقافتنا. يعاني كثيرون في الخفاء ولا ينبسون ببنت شفة. يأكلون حيناً ولا يتوفر لديهم ما يسد رمقهم حيناً آخر.
مع رئيس خدمة الصور الفوتوغرافية الإقليمي ماريو غولدمان، تساءلنا كيف يمكن لنا أن نسلّط الضوء على وجه ملموس من أوجه الانهيار الاقتصادي الذي يشهده لبنان، وهو الأسوأ منذ انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990).
بالنسبة إلى غولدمان، "المطبخ هو روح كل منزل حيث يوجد القوت اليومي وبالتالي الحياة، والثلاجة هي القلب". والفكرة بالنسبة لديه ليست بجديدة، إذ خطرت في باله خلال حصار قوات النظام السوري للغوطة الشرقية التي شكّلت معقل الفصائل المعارضة قرب دمشق. إلا أن الانقطاع المستمر في التيار الكهربائي أفقد الثلاجات دورها وأهميتها، ولم يتسن تنفيذ المشروع.
أمضيت والزملاء أنور عمرو وابراهيم شلهوب ومحمود زيات أياماً عدة في زيارة منازل ومطابخ عائلات في مدن رئيسية هي بيروت وجونية وجبيل شرق العاصمة، وطرابلس (شمال) وصيدا (جنوب). واستعننا بالنسبة الى البعض، بجمعيات لتدلنا عليها.
وافق عدد من الأشخاص على أن نلتقط صورا لهم وهم يقفون قرب براداتهم الخاوية. سواء أكانت مهترئة أم ترك الزمن ندباته عليها أو بيضاء جديدة، يجمع بين هذه الثلاجات قاسم مشترك: صناديق ورفوف شبه فارغة.
استغرق إنجاز مهمة التصوير وقتاً. رفض كثيرون الظهور أمام عدسات الكاميرا. واشترط من وافق منهم ألا تُذكر أسماؤهم في شرح الصورة. وقال آخرون إنهم يقبلون عرض رفوف براداتهم العارية لإيصال رسالة عن حقيقة الوضع إلى العالم. أقسى شيء سمعته كان سؤالا تكرّر في عدد من المنازل "هل ستساعدوننا؟".
لم يكن اقتحام خصوصية العائلات مهمة سهلة. شعرت أحياناً بالصدمة مما رأيته رغم معرفتي مسبقاً بالوضع الصعب الذي تمرّ به عائلات كثيرة. لكن رؤية برادات فارغة إلا من علب أدوية أو عبوات مياه يترك شعورا بالمرارة لا يوصف. كثيرون يعتاشون من مساعدات يقدمها لهم جيرانهم أو جمعيات أو يأكلون بقايا طعام صمدت من اليوم السابق.
لوهلة، تردّدت في التقاط الصور. لا تفارق ذهني تحديداً قصة سيدة فقدت طفلها الوحيد من ذوي الاحتياجات الخاصة ووجدت صعوبة بالغة في تأمين المبلغ اللازم لإخراجه من المستشفى ودفنه. بينما خسر زوجها عمله قبل أشهر عدة. كانت العائلة أحيت قبل يوم من زيارتي لها مرور أربعين يوماً على وفاة طفلها. كانت الوالدة الثكلى تبكي بشدة وتتحدث عن إنهاء حياتها، فكيف لي أن أسألها أن تشرّع باب برادها أمام كاميرتي؟
في لبنان، حتى ثمن كيلو الأرز بات مرتفعاً. كل المواد الغذائية والسلع تأثرت بانهيار الليرة. ارتفع ثمن حليب الأطفال على سبيل المثال من عشرين إلى ثمانين ألف ليرة خلال ثلاثة أو أربعة أشهر. أعرف في محيطي عشرين عائلة على الأقل تعاني في تأمين قوتها اليومي. ارتفع ثمن أحد أنواع زيت السيارات بشكل جنوني من سبعين ألفاً إلى 280 ألف ليرة.
بات الوضع لا يُحتمل لمن يقبض راتباً قدره مليون ليرة أو أكثر بقليل. لحمة الغنم أو البقر المشوية التي لا تفارق لقاءات العائلة والأصدقاء في عطل نهاية الأسبوع باتت ترفاً. وصار إعداد وليمة ودعوة الأصدقاء، وهو أكثر ما يحبّه اللبنانيون المعروفون بحياتهم الاجتماعية النشطة، أمرا مستحيلا للفئات ذات الدخل المتوسط حتى.
تطول قائمة الأمثلة.
كل ذلك فيما لا زال اللبنانيون يعانون بسبب ترهّل المرافق والخدمات العامة. فمنذ انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990)، لم تتمكّن الحكومات المتعاقبة من إصلاح قطاع الكهرباء الذي يعد مثالاً فاقعاً على حجم الفساد في لبنان. والنتيجة، يدفع اللبناني فاتورة للدولة وأخرى لأصحاب المولدات الخاصة الذين يوفّرون التيار البديل معتمدين على المازوت.
ويتكرر السيناريو ذاته بالنسبة لفاتورة المياه، إذ غالباً ما يضطر عدد كبير من اللبنانيين الى شراء صهاريج مياه خصوصاً خلال الصيف للاستخدام المنزلي بسبب انقطاع المياه التي توفّرها الشبكات العامة.
بعد نشر الصور، تلقينا عشرات الاتصالات الهاتفية من وسائل إعلام ومنظمات إنسانية وحتى سياسيين، تحفظوا عن نشر أسمائهم، سألوا عن كيفية تقديم المساعدة للعائلات التي التقطنا صور براداتها، فزودناهم بأرقام الجمعيات التي ساعدتنا في التعرّف على بعض العائلات.
اليوم، يعيش قرابة ستة ملايين شخص في لبنان، بمن فيهم اللاجئون الفلسطينيون والسوريون الذين فروا من الحرب الدائرة في بلدهم المجاور، ويعاني هؤلاء من ظروف صعبة فاقمتها الأزمة الاقتصادية.
شخصياً، ولدت قبل 44 عاماً وكنت واحداً من جيل الحرب الأهلية. أمضيت طفولتي في عزّ الحرب التي أوقعت أكثر من 150 ألف قتيل في هذا البلد الصغير الغني بثقافته وتنوّعه. اختار لبنانيون كثر حينها الهجرة الى أصقاع العام والبدء من نقطة الصفر.
أذكر جيداً أنّه في العام 1990، وفيما كانت الحرب شارفت على نهايتها وأنا في مرحلة المراهقة، شهدت الليرة انهياراً في قيمتها وكان والدي في عداد اللبنانيين الذين خسروا مدّخراتهم.
في العام 2006، وتزامناً مع بدء عملي في وكالة فرانس برس، خاض حزب الله واسرائيل حرباً مدمرة.
في خريف العام 2019، اندلعت احتجاجات شعبية غير مسبوقة ضد الطبقة السياسية المتهة بالفساد والفشل في إيجاد حلول للأزمات المتعاقبة. ويطالب المتظاهرون بإصلاحات حقيقية ووقف الهدر واستعادة الأموال المنهوبة.
باختصار، أمضيت الجزء الأكبر من حياتي في لبنان في خضمّ أزمات متلاحقة: سياسية وأمنية واقتصادية. لكن رغم الانهيار الاقتصادي المتسارع وتدهور العملة وتفشي البطالة والفقر، أحبّ أن أصدق أن هناك أملا. "نحن شعب لا يموت"، كطائر الفينيق الذي ينهض من الرماد ويحلّق عالياً.
تحرير: ميكاييلا كانسيلا كيفر وليال أبو رحال
إخراج ستيفاني يوسف