نبيل الشاب الطيب صاحب الابتسامة العريضة الذي التقيته في عدن
دبي - قد يبدو الموت في سن الرابعة والثلاثين أمرا مستبعدا، ولكن هذا عمر نبيل حسن القعيطي الذي اغتيل في الثاني من حزيران/يونيو بدم بارد برصاص مسلحين مجهولين أمام منزله في مدينة عدن في جنوب اليمن. كان نبيل شابا طيبا أحبّ مدينته عدن كثيرا.
تملك هذه المدينة الكبيرة تاريخا عريقا، وتخيّم عليها حاليا تعقيدات النزاع اليمني المستمر منذ أكثر من خمس سنوات من دون أي حلّ في الأفق.
ففي المدينة التي تشهد نزاعا داخل نزاع، أعلن الانفصاليون التابعون للمجلس الانتقالي الجنوبي إدارة ذاتية في 26 نيسان/أبريل الماضي، ما أنهى اتفاقا لتقاسم السلطة مع الحكومة المعترف بها دوليا الموجودة خارج اليمن رعته السعودية. وقد أضعف هذا الانقسام المعسكر المقاتل للمتمردين الحوثيين الذين يسيطرون على العاصمة صنعاء وأجزاء واسعة من شمال البلاد.
التقيتُ نبيل للمرة الأولى في آذار/مارس 2015 في فندق صغير في حي خور مكسر اختار مالكه لسبب غير مفهوم عزله عن البحر عبر إقامة جدار بدلا من فتحه على أمواج خليج عدن.
جاء الشاب ليبيع أشرطة فيديو صوّرها مستخدما كاميرات للهواة، لقنوات تلفزيونية عربية وغيرها من الوسائل الإعلامية التي أوفدت فرقا إعلامية إلى عدن لتغطية تقدم المتمردين الحوثيين باتجاه المدينة، بعد سيطرتهم على صنعاء ومواصلتهم التقدم نحو الجنوب.
كنتُ وصلت إلى عدن قبل فترة قصيرة للتحضير للتغطية الصحافية مع توجيهات بالتركيز على تقديم محتوى معزّز بالصور والفيديو. قامت قنوات تلفزيونية في حينه بإرسال فرق بأكملها، وكان بعض هؤلاء الصحافيين يعتبر أن طريقة نبيل في التصوير تفتقر الى الاحتراف.
وقتها، أضحى الفندق مسرحا للتصوير، مع الوجود الكثيف لمراسلي القنوات المختلفة الذين استخدموا حدائقه إطارا لهم، بينما تردّد الى الفندق جيش من الخبراء في الشأن اليمني لتحليل الوضع، مقابل مئة دولار لكل مداخلة تلفزيونية.
في الخيم التي نصبت في حديقة الفندق، كان يوم العمل ينتهي دوما بجلسة "تخزين" لا مفرّ منها. و"التخزين" يعني مضغ نبتة القات المخدرة، وهو نشاط يحظى بشعبية كبيرة في اليمن. لم يكن نبيل معجبا بالقات على عكس آخرين كانوا ينفقون مبالغ كبيرة من المال يوميا للحصول على هذه النبتة.
اقترحتُ على نبيل التعاون مع وكالة فرانس برس. وبعد قبوله، انطلقنا في مسعى للعثور على قصص إنسانية من المدينة. وبينما كان مكتب دبي يعمل على تأمين التغطية الإخبارية، بدأت مع نبيل باستكشاف سحر مدينة عدن التي أحبّها وكان يعرف كل أزقتها عن ظهر قلب.
تطلّب الموضوع الأول الكثير من الصبر والمثابرة لإنهائه، وتناول دار السينما الأخير، "هوريكين" (الإعصار)، في المدينة التي كانت تضم في ما مضى العديد من دور العرض. وجاءت الصور ساحرة: صالة بلا سقف تضم صفوفا من المقاعد الخشبية، زبائنها الدائمون من المسنين وبينهم واحد أقرّ بأنه يأتي كل غروب شمس لمشاهدة الفيلم الهندي ذاته.
عملنا بعدها على موضوع عن الحضور المسيحي في المدينة والكنائس المهجورة التي تحوّل بعضها إلى مراكز إدارية، والدير الذي أضحى دارا للعجزة، ثم على موضوع عن مخرج شاب أنتج فيلما بإمكانات بسيطة.
بين مبتدىء في مجال الفيديو مثلي وصحافي مبتدىء مثل نبيل، لم يخلُ الأمر من بعض الأخطاء والمصاعب، لكننا تجاوزناها ونجحنا في العمل معا، كون نبيل كان مفعما بالنشاط والحماس ومبتسما دائما ويملك قلبا كبيرا! مع مرور الوقت، اكتسب نبيل مهنية وأصبح ملتزما بالشروط الأمنية التي تفرضها الوكالة للعمل في الخطوط الأمامية للجبهات عندما كان يسعى الى نقل ما يحدث للعالم.
على مدار خمسة أعوام من التعاون المنتظم مع فرانس برس، أصبح نبيل في نهاية المطاف عضوا مهما للغاية في الفريق في ما يتعلق بتغطية جنوب اليمن. ولكن الأمر كان محفوفا بالمخاطر.
في بداية 2019، نجا نبيل من الموت خلال هجوم شنه المتمردون الحوثيون بطائرة بدون طيار على أكبر قاعدة عسكرية في البلاد، قاعدة العند الجوية في محافظة لحج، أثناء استعراض عسكري كان يقوم بتغطيته. وانتشرت في حينه الصور التي التقطتها في جميع انحاء العالم.
كغيره من المواطنين الصحافيين الذين امتهنوا التصوير في ساحات الحرب، كان نبيل ناشطا مع المجلس الانتقالي الجنوبي في عدن. ومع أن الحيادية قد تبدو مهمة مستحيلة في بلدان ذاقت مرارة الحرب، لا سيما عندما تكون حياة الصحافي وحياة عائلته على المحك في كل يوم، نقل نبيل الصورة على الأرض بشكل حقيقي دون أن يؤثر ارتباطه السياسي أبدا على إنتاجه الصحافي.
وتمكّن في بداية هذا العام، بمساعدة من مكتب دبي، من إجراء مقابلة مصوّرة بشكل مهني وغير منحاز، مع رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزبيدي.
كان نبيل متعلّقا كثيرا بمدينة عدن التي رفض دوما مغادرتها أو حتى الخروج من الحي الذي يقيم فيه، على الرغم من تلقيه تهديدات.
نبيل، قبل أن أودعك... أسمح لي أن أشكرك. شكرا لأنك سمحت لي بمرافقتك في خطواتك الأولى في وكالة فرانس برس. أتمنى أن ترقد روحك بسلام إلى جانب غيرك من الصحافيين الذين قتلوا في اليمن عندما حاولوا إعطاء وجوه وأسماء لمعاناة السكان الذين يعيشون أسوأ أزمة انسانية في العالم.
نتذكّر اليوم أيضا المصوّر المتعاون مع فرانس برس عبد الله القادري في قصف استهدف حدود محافظة البيضاء بوسط اليمن، وكان يقوم بمهمة صحافية لتلفزيون "بلقيس" اليمني. ولا ننسى الصحافيين الذين ما زالوا على قيد الحياة قابعين خلف قضبان السجون، ومنهم أربعة في صنعاء حكم عليهم بالإعدام في 11 نيسان/أبريل الماضي بتهمة "الخيانة".
نقلته إلى العربية شذى يعيش