مسدس في حمام الرجال
بغداد - عندما بدأ فيروس كورونا المستجد بالتمدّد في الجارة إيران، تحوّل العراقيون فورا إلى التعليقات الساخرة. واحد من تلك التعليقات لخّص بالفعل عقودا من يوميات بلد مزقته الحروب والنزاعات: ماذا يمكن أن يفعل بنا أكثر؟ لقد مررنا بكل شيء.
حدث ذلك بينما كنت في مهمتي الصحافية الأولى إلى بغداد منذ 2014. تغيّرت كثيرا المدينة التي عشت فيها ثلاثة أعوام، لكنها في الوقت ذاته بدت هي نفسها: مطاعم جديدة، مبان سكنية حديثة، مقاه، ولكن شعور عارم بالإحباط، رغم الاستقرار الأمني النسبي.
لدى انتقالي إلى بغداد منتصف 2011 وحتى مغادرتها في 2014، كان الموت المتنقل في سيارات مفخخة يطارد سكان المدينة في كل الشوارع، وداخل متاجرهم، وفي مسارح موسيقييهم، وحتى مدارس أطفالهم.
وكان الذهاب إلى المشرحة في تلك الفترة أمرا مألوفا لكثيرين فقدوا أحباء في المطاعم وأمام محلات بيع المثلجات وغيرها. كل عراقي خسر فردا واحدا على الأقل من عائلته.
في حزيران/يونيو 2014، وبينما كنت أقوم بآخر ريبورتاج في المدينة قبل مغادرتها، سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل شمالا ليجر البلاد نحو نفق أكثر ظلاما.
لكن هزيمته بعد أربع سنوات فتحت نافذة أمل.
فقد بدت بغداد حين زرتها في شباط/فبراير الماضي وكأنها تلتقط أنفاسها أخيرا بعد ماراثون طويل من العنف دام أربعة عقود منذ تسلم صدام حسين السلطة.
في شباط/فبراير 2020، وقبل أن يجبر فيروس كورونا المستجد السكان على ملازمة بيوتهم، كانت السيارات الفارهة تتجول على طول كورنيش نهر الفرات في المساء، وتملأ العائلات الموائد في المطاعم الجديدة، بينما يمسك شاب يد صديقته وهما يسيران جنبا إلى جنب في شارع المنصور في عيد العشاق.
خلال فترة قصيرة جدا، كُسرت عادات اجتماعية كانت تعتبر من المحرمات. وبحسب أحمد (32 عاما)، استفاق البغداديون أخيرا مع ترسخ الاستقرار الأمني فقط ليدركوا أن في الحياة أكثر من محاربة الموت كل يوم. "الكرامة"، كما قال.
في بلد غني بالنفط و65 بالمئة من سكانه تحت سن الـ25، أصبح الشبان والشابات يتطلّعون لنمط حياة طبيعي، مردّدين عبارة "أريد وطنا" كشعار لتظاهراتهم التي انطلقت في تشرين الأول/أكتوبر 2019 للمطالبة بالتغيير، واستمرت أشهرا متحدية القمع. وتراجعت، كما هدأ كل شيء مع سيطرة "كوفيد-19" على الشوارع والحياة.
ويبقى الفساد التحدي الأكبر في بلد تجذّرت فيه ممارسات الرشوة واستغلال النفوذ منذ الاجتياح الذي قادته الولايات المتحدة سنة 2003، إذ أصبح من غير الممكن إتمام أي شيء تقريبا من دون رشوة. حتى الحقائب الوزارية باتت رهينة بازار: ادفع أكثر، تحصل على وزارة.
وإلى جانب الفساد، دفعت الطائفية وغياب الخدمات الرئيسية وسيطرة الجماعات المسلحة على الأعمال الصغيرة وعدم وجود قطاع صحي فعال، العراقيين إلى حافة اليأس والكآبة.
كان العديد من سكان بغداد يرغبون بالهجرة في 2014، ولا يزال كثيرون منهم يتطلعون إلى ذلك، فقط للخروج من دوامة الإحباط التي عمّقتها مؤخرا عشرات الوفيات ومئات الإصابات بفيروس كورونا المستجد.
في شارع المتنبي التاريخي وسط بغداد، يجني علي المولود في الاربعينات قوته اليومي من التقاط الصور مع المارة وهو يرتدي سروالا أبيض وسترة زرقاء ويضع ربطة عنق تزينها الورود بالقرب من دراجة نارية علّق عليها زهورا بلاستيكية.
ويؤكد علي المبتسم دائما وهو يقف في ظل تمثال للشاعر المتنبي أنّ بغداد كانت تشبهه ولا بد أن تعود لتشبهه من جديد، "نظيفة وفرحة".
لكن المدينة الغنية بالتاريخ، تبدو بعيدة كل البعد عن ذلك.
في ليلتي الأولى في شباط/فبراير الماضي، ذهبت لتناول العشاء في مطعم قريب من كورنيش الفرات. على إحدى الطاولات، جلس شاب ينتظر حبيبته، بينما كان أصدقاء يضحكون ويتحدثون بصوت عال بالقرب من زوج وزوجته تجمّعا حول قالب حلوى أصفر للاحتفال بعيد ميلاد ابنهما.
لم يخالجني شعور مماثل بالارتياح طوال سنواتي الثلاث في بغداد بين 2011 و2014.
لكن هذا الشعور لم يدم طويلا.
ففي حمام الرجال، فوق سلة قمامة حديدية أمام جدار زهري وأزرق، نسي أحدهم مسدسه الأسود. كان ذلك، لما رأيته، مجرد تذكير بسيط بأنني لا زلت في بغداد التي تركتها قبل ست سنوات.